د. عبد العزيز فهد يكتب |
لقد نال الشعراء على مدى العصور الماضية وإلى يومنا هذا مرتبة من التمجيد والمحبة ودرجة عظيمة من الإعجاب من جانب الاشخاص المحيطين بهم وبقدر ما نالوا من ذلك فإنهم لم يسلموا من الإهانات والسباب وقد يضطرون فى بعض الاحيان إلى تنفيذ الحكم عليهم بالنفى أو الاعدام.
وكان منهم البؤساء الذين يعانون الشعور بالوحدة القاتمة والإنعزال عن الناس، فلا يشاركهم فى إحساسهم أحد ويمرون فى الحياة مثلهم مثل خيال الظل...
بيد أن هذه ليست هى الحال مع الشاعر الإسبانى "فيدريكو جارثيا لوركا" الذى مازالت أعماله وذكرياته تنبض بالحياة والتقدير والجمال وترفرف فى دنـيا الإنسان على الرغم من أنقضاء اكثر من نصف قرن من الزمان على وفاته المأساوية.
فـقـد بدأ لوركا باكورة قصائده الشعرية عند بلوغة الثامنة عشرة من عمره ونشر أول كتاب له بعنوان "اغانى" عام 1924 وقد تزامن نشر هذا الكتاب مع تأليف كتابه المشهور "قصائد شعرية غجرية"
ومع أن الشاعر المذكور كان مايزال يحيا حياة الطفولة اللغوية ولم يكن يـعـدُ ناضجا لغويا ، حيث كان يلعب مع رفاقه ويدرس مبادىْ الموسيقى والتعاليم الأولى لصغار السن إلا أن عالمه الشعرى كان يخيم عليه نوع من السبات كأنما يتأمل كل مايدورحوله ولكن بأسلوب مختلف، يختلف عن غيره من البشر، وكان يتأمل العصافير والأزهار وأغصان الزيتون والجبال العالية والنافورات الزجاجية، كل هذه الأشياء لم تكن مجرد أشياء للمشاهدة بل إنها تحتوى فى داخلها وتحمل بين طياتها روح تنبض وتناجى قلوب البشر كأنها تعكس مايملأ نفس الشاعر من رغبات وفشل وآمال غير أن أشعاره لم تكن خرجت فى شكل شعرى منتظم.
أصغى الشاعر الى صوت الماء يجرى فى الجداول وتأمل فى السماء الزرقاء والسحب المسافرة التى تقطع أشواطـاً وأشواط هنا وهناك وعند اقتراب وقت بزوغ النهار يتغير كل شىء.ويشعـر الطفل الشاعر بشىء يدفعه للتأليف والكتابة بشكل على غير العادة وتظهر الكلمات الدفينه من داخله فى شكل منظومة، تعبيراتها جميلة تعرب عن النور وتصور الحب والرقة والجمال والأحلام كل ذلك فى شكل ملموس ومجسد فوق ورق أبيض. وان الشاعر فيدريكو جارثيا لوركا شأنه شأن كافة الشعراء الواقعيين، قام بربط أواصر العالم الذى يحيط به مع أواصر الآخر الذى ينبض فى مجاهل قلوب الإنسانية، بل إن الشاعر كان مشغولاً فى بحثه وحريصاً على الوقوف على أسباب وجودنا القصير فى هذه الحياة.
كانت أشعاره بمثابة صدى لنبض مشاعره وإنعكاسـاً لأحلامنا ورغباتنا، وكل هذا فى البشر إلا أنهم عاجزون عن التعبير عنه. ومع ضألة الفترة التى عاشها "لوركا" فقد كانت أعماله على قدر طموحنا واحلامنا...ولو لم يتعرض لوركا للموت المأساوى البالغ الذى جاءه بغتة وهو لم يزل فى ريعان شبابه، ماكنا قد حرمنا من ثمار إلهامه الخصيب وعطاءه المستنير...
ولد "فيدريكو جارثيا لوركا" فى الخامس من يوليو 1898 بقرية " فوينتى باكيروس" التابعة لمحافظة غرناطة، كانت والدته "بثينتا لوركا روميرو" تعمل كمعلمة فى نفس القرية، وكان والده السيد " فيدريكو جارثيا رودريجيث" صاحب املاك من آراضى وعزب. وعُمد بعد أسبوع من ميلادة فى "كنيسة نويسترا سنيورا دى لا انونثياثيون". وكان لميلاد شاعرنا صدى عظيم بين الأصدقاء والمعارف وفى تعميده حضر البسطاء من العمال والعاملين فى مزارع السيد "فيدريكو" التى كان يملكها فى "سوتو دى روما" الواقعة بجوار نهر "خينيل"...
أقامت العائلة فى شارع "تراينيداد" الذى يحمل اسم الشاعر اليوم. لاتختلف قرية "فوينتى باكيروس" عن القرى الأندلسية الأخرى فى بنيتها: بيوت ذات لون أبيض فى شكل متدرج وشُرفات وساحات بأعمدة. وتتميز عن غيرها أن النافورة التى توجد فى قلب الميدان اُخذت اسم القرية.
لم يكن من المدهش أن تتحمل السيدة "بثينتا لوركا روميرو" بصفتها معلمة مسؤلية تعليم ابنها الأحرف الاولى. ففدريكو نفسه تذكر هذه السنوات الاولى من طفولته. محدثاً عن أمه بمشاعر الإحترام وتحدث عن ألعابه مع أطفال الحى الأخرين.
ويحكى شاعرنا بعض من ذكريات طفولته "كانت طفولتى طويلة جداً. وهذه الطفولة الطويلة أبقت لى هذه السعادة. وتفاؤلى الذى لاينضب"، ولذلك نشأ الصغير فدريكو طفلاً حساساً جداً ذا قلب كريم. دائما يحضر لمساعدة العائلات المحتاجة فى الحى فى حدود أمكانياته. من بين هؤلاء الفقراء "الغجر" كان صغار الغجر يأتون لطلب الحسنه، كان فيدريكو بعطيهم مايجده فى المطبخ. فاجأته واحده من خادمات المنزل وهو يأخذ الخبز فى مناسبة ما.
سألته الخادمة: كل هذا الخبز ستأكله يا فيدريكو؟
-أجاب الطفل: إنه ليس لى.
- وقالت الخادمة: ربما للعصافير؟
- أجاب الطفل: تبحث العصافير عن الطعام بأساليبها الخاصة.
- وسألته الخادمة مرة أخرى: ماذا تفعل بهذا الخبز؟
- قال فيدريكو..سأعطية للغجر بالخارج؟
- هل تعرف أمك ذلك؟
- لا...لأن ذلك لايهما.
- قالت الخادمة: بذلك سوف يأتى هؤلاء الكسالى كل يوم؟
- وبرر فيدريكو الصغير موقفه "هم جائعون".
عاشت فى المنزل السيدة الرائعة التى عشقها فيدريكو عمته "إيزابيل" التى علمته العزف على الجيتار والأغانى ولم يبلغ عامه الخامس، وحيال ذلك لايجب التخيل بأن فيدريكو لم يكن من نوع الطفل المعجزة، أكد فقط على اتجاهه إلى مواهب معينة من الإحساس وميل للموسيقى والشعر. تلك الهواية المشتركة بين سكان الأرض الأندلسية. كان فتى حالماً حساس ساذجاً، نشأ فى بيئة فنية تهتم به، مدلل من الجميع، لم بكن لديه الخبث ومعرفة الحياة اكتسبها من الشارع فى سن مبكرة من أبناء العائلات المتواضعة.
عندما كان يدرس فى مدينة "ألميرية" كافأة معلمة لسلوكة الطيب فى الفصل وأعطاه نقودا للذهاب إلى السينما، ذلك المعلم قليل المرتب يعطية نقودا لشراء تذكرة للذهاب إلى السينما من النوع الرخيص.
-قال له المدرس: يجب عليك الذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم " قفص الدجاج"
-أجاب الطفل: أسف لا أريد الذهاب إلى هذا المكان.
-قال المدرس: لاتعجبك السينما؟
-أجاب فيدريكو نعم تعجبنى،ولكن لا اريد الذهاب الى "قفص الدجاج".
حثه المدرس هيا،هيا يا فيدريكو، معتقداً بأن تلميذه على أن لايجعل فى نفسه شىء. لا تتكبر يا فتى.لان فيدريكو ليس معداً للاختلاط مع أطفال الغجر من اعتادوا على شراء التذاكررخيصة الثمن. لكن الأمر لايتعلق بذلك وانما ببراءته وسذاجته لدرجة انه فهم فقط الاسم الشائع والأكثر تداولا لكلمة "قفص دجاج"..
وأمام إلحاح المدرس، ذهب فيدريكوإلى السينما كما كانت تسمى حينئذ كملهى فى بدايته، وقد علق عند عودته: لم يكن هذا المكان كقفص دجاج، فكان نظيفا ولا توجد دحاجة واحدة...
كان فيدريكو كأطفال الريف محباً للحيونات التى يتحدث معها كأنها أصدقاءه مقيماً معهم حواديت مستحيلة، ولكن مخيلته القوية تجعل منها حقيقة..
وبعد سنوات أثناء اقامته فى أمريكا...وقال لصحفى أرجنتينى "خلال طفولتى، لم يكن فقط عالم الطبيعة مشهدا للتأمل، بل بعضاً منها كونت جزء من نفسى. فهو كغالبية الأطفال حصل على أشياء عديده مثل الاثاث، والالعاب..ويستطرد قائلاً " فى فناء منزلى يوجد أشجار، وذات مساء غنت الاشجار نتيجة لمرور الرياح بين أغصانها يصدر ضوضاء فيخيل لى أنها موسيقى، فاعتدت على قضاء الساعات بمصاحبة صوت أغانى هذه الاشجار..
وقد كرس فيدريكو حياته كشاعر إلا أنه يؤكد فى مناسبة أخرى " ذكريات طفولتى البعيدة لها طعم الأرض".
انتظرونا المقال القادم لنستكمل مواقف من حياة لوركا.
Comments